تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 239 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 239

239 : تفسير الصفحة رقم 239 من القرآن الكريم

** وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئاً وَآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنّ سِكّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ وَقُلْنَ حَاشَ للّهِ مَا هَـَذَا بَشَراً إِنْ هَـَذَآ إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنّ وَلَيَكُوناً مّن الصّاغِرِينَ * قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبّ إِلَيّ مِمّا يَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أَصْبُ إِلَيْهِنّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنّ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ
يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز, شاع في المدينة وهي مصر حتى تحدث به الناس {وقال نسوة في المدينة} مثل نساء الكبراء والأمراء, ينكرن على امرأة العزيز وهو الوزير ويعبن ذلك عليها {امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلى نفسها {قد شغفها حب} أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو غلافه. قال الضحاك عن ابن عباس: الشغف الحب القاتل, والشغف دون ذلك, والشغاف حجاب القلب «إنا لنراها في ضلال مبين} أي في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه, {فلما سمعت بمكرهن} قال بعضهم: بقولهن ذهب الحب بها, وقال محمد بن إسحاق: بل بلغهن حسن يوسف, فأحببن أن يرينه, فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته, فعند ذلك {أرسلت إليهن} أي دعتهن إلى منزلها لتضيفهن {وأعتدت لهن متك}. قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والسدي وغيرهم: هو المجلس المعد فيه مفارش, ومخاد, وطعام فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه, ولهذا قال تعالى: {وآتت كل واحدة منهن سكين} وكان هذا مكيدة منها ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته {وقالت اخرج عليهن} وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر {فلم} خرج {ورأينه أكبرنه} أي أعظمنه أي أعظمن شأنه, وأجللن قدره, وجعلن يقطعن أيديهن دهشاً برؤيته, وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج بالسكاكين, والمراد أنهن حززن أيديهن بها, قاله غير واحد, وعن مجاهد وقتادة: قطعن أيديهن حتى ألقينها, فالله أعلم.
وقد ذكر غير واحد أنها قالت لهن بعد ما أكلن وطابت أنفسهن, ثم وضعت بين أيديهن أترجاً وآتت كل واحدة منهن سكيناً: هل لكن في النظر إلى يوسف ؟ قلن: نعم, فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن, فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن, ثم أمرته أن يرجع ليرينه مقبلاً ومدبراً, فرجع وهن يحززن في أيديهن, فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن, فقالت: أنتن من نظرة واحدة فعلتن هذا, فكيف ألام أنا ؟ {وقلن حاشى لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم} ثم قلن لها: وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا, لأنهن لم يرين في البشر شبيهه ولا قريباً منه, فإنه عليه السلام كان قد أعطي شطر الحسن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف عليه السلام في السماء الثالثة, قال «فإذا هو قد أعطي شطر الحسن» وقال حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطي يوسف وأمه شطر الحسن». وقال سفيان الثوري, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله بن مسعود قال: أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن. وقال أبو إسحاق أيضاً, عن أبي الأحوص, عن عبد الله, قال: كان وجه يوسف مثل البرق, وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به. ورواه الحسن البصري مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا, وأعطي الناس الثلثين», أو قال «أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث». وقال سفيان, عن منصور, عن مجاهد عن ربيعة الجرشي قال: قسم الحسن نصفين فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن, والنصف الاَخر بين سائر الخلق.
وقال الإمام أبو القاسم السهيلي: معناه أن يوسف عليه السلام كان على النصف من حسن آدم عليه السلام, فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها, ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله, وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه, فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته {حاشى لله}. قال مجاهد وغير واحد: معاذ الله {ما هذا بشر}, وقرأ بعضهم ما هذا بشري أي بمشترى بشراء {إن هذا إلا ملك كريم * قالت فذلكن الذي لمتنني فيه} تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله وكماله, {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} أي فامتنع. قال بعضهم: لما رأين جماله الظاهر أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن, وهي العفة مع هذا الجمال, ثم قالت تتوعده {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين} فعند ذلك استعاذ يوسف عليه السلام من شرهن وكيدهن, و{قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} أي من الفاحشة {وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن} أي إن وكلتني إلى نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضراً ولا نفعاً إلا بحولك وقوتك, أنت المستعان وعليك التكلان, فلا تكلني إلى نفسي {أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه} الاَية, وذلك أن يوسف عليه السلام عصمه الله عصمة عظيمة, وحماه فامتنع منها أشد الامتناع, واختار السجن على ذلك, وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته, وهي امرأة عزيز مصر, وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة, ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفاً من الله ورجاء ثوابه.
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل, وشاب نشأ في عبادة الله, ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه, ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه, ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه, ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله, ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه».

** ثُمّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الاَيَاتِ لَيَسْجُنُنّهُ حَتّىَ حِينٍ
يقول تعالى: ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين, أي إلى مدة, وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الاَيات, وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته, وكأنهم ـ والله أعلم ـ إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاماً أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك. ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة. فلما تقرر ذلك, خرج وهو نقي العرض صلوات الله عليه وسلامه. وذكر السدي أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه, ويبرأ عرضه فيفضحها.

** وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنّيَ أَرَانِيَ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الاَخَرُ إِنّي أَرَانِيَ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
قال قتادة: كان أحدهما ساقي الملك, والاَخر خبازه. قال محمد بن إسحاق: كان اسم الذي على الشراب نبوا والاَخر مجلث. قال السدي: كان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالاَ على سمه في طعامه وشرابه, وكان يوسف عليه السلام قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة, وصدق الحديث, وحسن السمت, وكثرة العبادة, صلوات الله عليه وسلامه. ومعرفة التعبير والإحسان إلى أهل السجن, وعيادة مرضاهم, والقيام بحقوقهم. ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن تآلفا به وأحباه حباً شديداً وقالا له: والله لقد أحببناك حباً زائداً. قال: بارك الله فيكما, إنه ما أحبني أحد إلا دخل عليّ من محبته ضرر, أحبتني عمتي فدخل عليّ الضرر بسببها, وأحبني أبي فأوذيت بسببه, وأحبتني امرأة العزيز فكذلك, فقالا: والله ما نستطيع إلا ذلك, ثم إنهما رأيا مناماً فرأى الساقي أنه يعصر خمراً يعني عنباً, وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود: إني أراني أعصر عنباً.
ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان, عن يزيد بن هارون, عن شريك, عن الأعمش, عن زيد بن وهب, عن ابن مسعود أنه قرأها: أعصر عنباً: وقال الضحاك في قوله {إني أراني أعصر خمر} يعني عنباً, قال: وأهل عمان يسمون العنب خمراً, وقال عكرمة: قال له: إني رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبة من عنب, فنبتت فخرج فيها عناقيد, فعصرتهن ثم سقيتهن الملك, فقال: تمكث في السجن ثلاثة أيام ثم تخرج فتسقيه خمراً, وقال الاَخر وهو الخباز {إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطيرمنه نبئنا بتأويله} الاَية, والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه أنهما رأيا مناماً وطلبا تعبيره. وقال ابن جرير: حدثنا وكيع وابن حميد قالا: حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود قال: ما رأى صاحبا يوسف شيئاً, إنما كان تحالماً ليجربا عليه.

** قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاّ نَبّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمّا عَلّمَنِي رَبّيَ إِنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُمْ بِالاَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتّبَعْتُ مِلّةَ آبَآئِـيَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
يخبرهما يوسف عليه السلام أنهما مهما رأيا في المنام من حلم فإنه عارف بتفسيره يخبرهما بتأويله قبل وقوعه, ولهذا قال: {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله}. ومجاهد: يقول {لا يأتيكما طعام ترزقانه} في يومكما {إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكم}, وكذا قال السدي. وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن العلاء, حدثنا محمد بن يزيد شيخ له, عن الحسن بن ثوبان, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: ما أدري لعل يوسف عليه السلام كان يعتاف وهو كذلك, لأني أجد في كتاب الله حين قال للرجلين: {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله} قال: إذا جاء الطعام حلواً أو مراً اعتاف عند ذلك. ثم قال ابن عباس: إنما علم فعلم, وهذا أثر غريب, ثم قال: وهذا إنما هو من تعليم الله إياي, لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الاَخر, فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً في المعاد {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب} الاَية, يقول: هجرت طريق الكفر والشرك, وسلكت طريق هؤلاء المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى, واتبع طريق المرسلين, وأعرض عن طريق الضالين, فإن الله يهدي قلبه, ويعلمه ما لم يكن يعلم, ويجعله إماماً يقتدى به في الخير, وداعياً إلى سبيل الرشاد {ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس} هذا التوحيد وهو الإقرار بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له {من فضل الله علين} أي أوحاه إلينا وأمرنا به. {وعلى الناس} إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك {ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون} أي لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم, بل {بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية, حدثنا حجاج عن عطاء, عن ابن عباس أنه كان يجعل الجد أباً ويقول: والله فمن شاء لاعنته عند الحجر, ما ذكر الله جداً ولا جدة, قال الله تعالى يعني إخباراً عن يوسف: {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب}.